رؤيتان مختلفتان، و مقارنتهما بواقع الأزمة في سوريا

لعله من المتوقع أن يعمل كل من النظام و مناوؤه بشكل دؤوب على التأثير على الرأي العام، سواءً منه الداخلي السوري، أو الخارجي العربي و الدولي. و مع أن آراءً كثيرة تتفق على أن أدوات النظام الإعلامية، سواء منها الرسمية أو غير النظامية، يجب ألا تمنح مصداقية عالية، إلا أننا لا نجد هذه الدرجة من الحذر في التعامل مع ما يرد من الطرف الآخر. بل إن هناك تماهٍ و تصديق شبه أعمى لكل الأخبار و التحليلات التي ترد من طرف مناوئي النظام، و سنحاول هنا أن نقارن بين طروحات الطرفين.

رواية معسكر النظام

تتمحور الرؤية المركزية للنظام حول تصوير الأزمة على أنها بشكل أساسي (ليس كلياً) نتاج مؤامرات أجنبية. و مع أن مسؤولي النظام لم ينكروا أن هناك مطالب محقة لبعض المتظاهرين، إلا أن جل الرسالة الإعلامية كان موجهاً بشكل شبه كامل باتجاه التحذير من “المؤامرات الخارجية.” ربما يمكن استثناء رئيس الجمهورية شخصياً من هذا التعميم، خاصة و أنه يبدو و قد أدرك فداحة الخطأ الذي ارتكبه في خطابه الأول، حيث لم يعبر بشكل موفق عن أسفه لوقوع ضحايا أبرياء، و لم يتناول المطالب المحقة للمحتجين بشكل مقنع، و لم يبد الاهتمام الكافي بها، بل انصب معظم خطابه حول المؤامرة التي تتعرض لها سوريا، و هو ما أغضب شريحة عريضة من السوريين.

منذ ذلك التاريخ، قدم الأسد عدة خطابات أخرى: حاور صحفيين من التلفزيون السوري، و تحدث مع وفد من رجال الدين في رمضان. خلال هذه الخطابات المتتالية، تحدث الرئيس بشكل أكبر عن الإصلاح، و بشكل أقل عن المؤامرات الخارجية. في خطابه الأخير في 10 كانون الثاني 2012، تحدث مجدداً عن الفرز بين من يريد الإصلاحات و الحقوق، و بين من يريد أن يستخدم الإصلاح كحجة لقلب النظام. و لكن إذا ما استثنيا خطابات الرئيس، فإن القنوات الإعلامية الرسمية و شبه الرسمية المختلفة استمرت في إهمال التناول الجدي لموضوع الحقوق و المطالب، و ركزت بشكل شبه كامل على روايات المؤامرات الخارجية، و التي كان منها ما هو معقول، و ما هو مبالغ فيه.

إضافة إلى التركيز على المؤامرة، فقد تميزت مقاربة الرواية الرسمية للنظام بتضخيم حجم التيارات العنفية و الطائفية بين المحتجين. نعم، كانت هناك اعترافات خافتة بأن العديد من المتظاهرين هم مواطنون شرفاء يرغبون بمستقبل أفضل لهم و بواقع أفضل لوطنهم، إلا أن معظم الجهد الإعلامي الرسمي و شبه الرسمي انصب على تسليط الضوء على متظاهرين أقل مثاليةً من هؤلاء، حيث تم التركيز بشكل شبه كامل على حملة السلاح و السلفيين و من يستلم الأموال من خارج البلاد بغرض بث الفوضى في سوريا. تمتلئ صفحات الفيس بوك الموالية للنظام بأخبار عن القبض على عناصر أجنبية (سعوديون، أفغان، و عرب آخرون) في عمليات خاطفة و “نوعية” للجيش و قوات الأمن السورية، و هو ما قد يكون صحيحاً. إلا أن امتناع السلطات السورية عن إظهار أية قرائن حسية تدعم مثل هذه الأخبار، من أسماء أو صور أو فيديوهات واضحة، يفتح الباب أمام الكثير من التشكك في مدى صدقية أخبار كتلك، و فيم إذا كانت لا تعدو كونها مبالغات هدفها صرف النظر عن الجانب السلمي من الحراك، و عن مطالبه المشروعة بالحقوق و الإصلاح.

أيضاً، تعطينا الرواية الرسمية للنظام الانطباع بأن جميع من قتل على أيدي قوات الأمن هم من “العصابات المسلحة” أو “السلفيون التكفيريون” أو “الإرهابيون.” و أما عن الأبرياء الذين سقطوا فالجواب المستخدم لا يتعدى الاعتراف الباهت بأن “هناك أخطاء حصلت،” و هو أقصى ما وصل إليه النظام من اعتراف فيما يخص الضحايا الأبرياء.

في المجمل، فإن المقاربة الرسمية للنظام لم تفعل ما يكفي لإقناع المتظاهرين السلميين و غير المتطرفين بأن النظام يعترف بحضورهم و بأهميتهم و بأحقية مطالبهم. و فيم نجح أعداء النظام في إبقاء الضغط عليه و تسميره في موقع الدفاع عن نفسه، فإن النظام نفسه قد فشل إلى حد كبير في التواصل مع جزء كبير من الرأي العام السوري و العربي و العالمي، و في إيصال رواية مقنعة لهذا الرأي العام. و ربما يمكن تفسير هذا الفشل بأنه تجل للتناقض القائم بين الحاجة لاستراتيجية تواصل حديثة و شفافة و مقنعة، و بين توجه معروف لدى النظام بالمحافظة على درجة عالية من الغموض في ما يخص كل أوراقه.

رواية مناوئي النظام

بالرغم من أن مقاربة النظام تعاني من العيوب الكبيرة المذكورة آنفاً، إلا أن الرواية المقابلة تعاني من عيوب أكثر فداحة بشكل كبير. و من الجلي بأن هناك خبرات على مستوى عالمي في مجالات العلاقات العامة و زعزعة الأنظمة تعمل مشكل دؤوب على تشكيل و توجيه الأزمة في سوريا بغرض إسقاط النظام الحاكم فيها، حيث هناك حملة مركزة من الخداع الممنهج للرأي العام تعمل بشكل مواكب للحراك الشعبي على الأرض. و من ميزات هذه الحملة أنها تمكنت من تحويل معظم وسائل الإعلام إلى مستهلك نهم للرسالة التي يبتغي لها خبراء التواصل الذين يعملون لصالح “الثورة” أن تصل، و لها فقط. و يمكن استشفاف مدى فعالية و تطور حملة الطرف المناوئ للنظام من خلال مراقبة غزارة المادة الإعلامية التي تعالجها و تنتجها، و من سرعة تدويرها و إتاحتها للمستهلك. من الجلي أن هناك فهم عال للدورة الإخبارية و قدرة عالية على استخدام عناصر كثيرة لخدمة الرسالة المبتغى إيصالها بما في ذلك التوقيت الصحيح.

فيما يلي، نسرد 25 نقطة تعد هي الحجج الأساسية التي يتم تداولها من قبل هذا المعسكر، و نحاول أن نسلط الضوء على متلازمة الخداع التي تسم هذه النقاط، و التي تستهدف التأثير على الرأي العام و تشكيله بالشكل الذي يريده المعسكر المناوئ للنظام، و من ثم توجيهه باتجاه المساهمة في إسقاط النظام.

1 – النظام (أو “بشار”) شرير بشكل مطلق. فاسد، عنيف، و مستعد للتضحية بكل شيء و بكل الناس للمحافظة على “الكرسي”.

2 – النظام غير وطني، فقد باع الجولان لإسرائيل عام 1967، و هو اليوم ملتزم بأمن إسرائيل و بحماية حدودها، و إسرائيل تعمل سراً على الإبقاء على بشار الأسد في السلطة. أما النصر (و إن كان جزئياً) للنظام في حرب 1973، و مساهماته الفعالة في دعم حركات المقاومة في المنطقة و التي ساهمت بدحر الاحتلال من جنوب لبنان عام 2000، و في دعم القاومة عام 2006 و 2008 فيجب أن لا تذكر. النظام ليس له أية نجاحات، و دوره في إيقاف الحرب الأهلية في لبنان بتكلفة بلغت 13000 جندي سوري فيجب اختزاله إلى انهم “سرقوا البلد و قتلوا رفيق الحريري”.

3 – النظام غبي، و بشار نفسه غبي أيضاً، و هو الرجل الخطأ لرئاسة سوريا، هو لا يستطيع حتى أن يقود سيارته دون أن يتسبب في حادث سير. (تابع هذا الفيديو المشهور و المفبرك)

4 – النظام لا يمكن إصلاحه. الثورة هي الحل الوحيد. أي شيء يقدمه النظام (بدءاً من المؤتمر الصحفي لبثينة شعبان بتاريخ 24 آذار 2011)و أي شيء يمكن أن يقدمه في المستقبل هو دائماً قليل جداً و متأخر جداً.

5 – أي حوار مع النظام هو بمثابة طعنة في الظهر لأولئك السوريين الشجعان الذين يخاطرون بحياتهم و الذين لن يتوقفوا إلا بإطاحة النظام. الدعوة للحوار هي دعوة لا أخلاقية و يجب أن ترفض رفضاً كاملاً.

6 – الثورة الشعبية هي محلية بالكامل، و هي طبيعية (غير مفتعلة)، بريئة، سلمية، و أخلاقية. و كل المشاركين في الثورة يتحلون بنفس المستوى العالي من نبل الأخلاق و من الطموحات المشروعة لغدٍ أفضل لسوريا كلها. ليس هناك أي سبب يمنع أطياف المعارضة من التعاون. إذا لم يتمكنوا من التفاهم فيما بينهم، فذلك بسبب قلة خبرتهم السياسية و لأن النظام الشرير قد عمل على إضعاف المعارضة لعقود، و ليس لأن بينهم تناقضات جوهرية في الأولويات و منظومة القيم التي تحكمهم، و ليس لأن بينهم تنافس على المكاسب الشخصية و على كرسي السلطة.

7 – الثورة في غالبيتها علمانية و “مدنية”  و غير طائفية، و ادعاءات النظام بالتوجه الطائفي لدى جزء كبير من القوى المحركة للأزمة لا أساس لها من الصحة. لا يوجد متطرفون يحاربون النظام. على الشعب السوري ألا يخاف الفوضى أو الحرب الأهلية. كل تلك تكتيكات تخويف مصدرها النظام. و لو قد أن حرباً أهلية اندلعت في سوريا، فذلك سيكون ذنب النظام.

8 – احتمالات نجاح الثورة في إسقاط النظام هي دائماً عالية، مهما كانت الأخبار على الأرض. يجب أن يشعر المتظاهرون (و من لا يزالون لم يحزموا أمرهم) بحتمية الظفر بالنصر النهائي قريباً جداً، بأنهم سيصنعون التاريخ، و سيعيشون “لحظة ميدان التحرير” الخاصة بهم. و لإبقاء هذا الانطباع الضروري لدى المتظاهرين، يتناوب أوجه المعارضة مع المسؤولين العرب، و الأتراك، و الإسرائيليين، و الأوروبيين و الأميركيين بشكل دوري (أسبوعي في العادة) على إطلاق تصريحات ترفع من معنويات المتظاهرين الشبان في الداخل و تحفزهم على الخروج و المخاطرة بحياتهم نيابة عن كل تلك الأطراف الخارجية التي ترغب برؤية النظام السوري و قد انهار.

9 – أيام النظام معدودة. من الأيام الأولى في آذار 2011، كان النظام بشكل دائم “على وشك السقوط“.

10 – تدمير الاقتصاد السوري هو استراتيجية مشروعة لإسقاط النظام. مقاطعة الدراسة و المدارس هي كذلك مشروعة. “لا دراسة و لا تدريس حتى يسقط النظام“.

11 – التدخل الخارجي (العسكري) ضروري لأسباب إنسانية. إذا تسبب ذلك بمقتل الملايين، فهو ثمن ضروري لكل أمة تسعى للديموقراطية. “الشعب السوري” يريد تدخل الناتو عسكرياً.

12 – الدول العربية، و تركيا، و الولايات المتحدة، و أوروبا لا يريدون سوى مساعدة الشعب السوري، و أن يتحرر من هذا النظام المتوحش الذي لا يمكن مقارنته بمستوى التحضر الموجود لدى تلك الدول، و لا بالتزامها بمبادئ حقوق الإنسان. الممر الإنساني لألان جوبيه ليس إلا واحد من الخيارات التي يعمل عليها “المجتمع الدولي” لمساعدة الشعب السوري.

13 – هناك مقاتلون “شيعة” من حزب الله و إيران يساعدون النظام السوري و يطلقون النار على “أهل السنة” في كل أنحاء سوريا.

14 – مؤيدو النظام هم من “الأقليات” أو من رجال أعمال حلبيين و دمشقيين فاسدين و منتفعين من النظام. في الواقع، لا يوجد أي مؤيدين للنظام. و أما مئات الألوف الذين يخرجون بشكل واضح في مدن عديدة تأييداً، فهم مجبرون على ذلك تحت وطأة التهديد، أو هم جنود علويون يتم نقلهم بالباصات إلى أماكن التجمعات.

15 – الجيش السوري ينهار بسرعة و يتفكك، و هو منهك، و غير مستعد “لقتل الشعب السوري.” بينما الجيش السوري الحر قد وصل عديده إلى 15 ألف مقاتل. في أي اشتباك مسلح يحصل، يجب نفي وجود مسلحين و التأكيد على أن الاشتباكات هي بين “الجيش الأسدي” و بين الجيش السوري الحر، و الذي يحاول حماية المتظاهرين السلميين الذين يحملون أغصان الزيتون كناية عن سلميتهم المتأصلة. و إذا لم يمكن إنكار وجود عناصر عنفية و مسلحة داخل بنيان الثورة، فيجب التأكيد على أن هذه الظاهرة “ابتدأت مؤخراً” و التأكيد على أنها شرعية بالكامل و غرضها الدفاع المشروع عن النفس.

16 – أي عنف طائفي مصدره دائماً النظام. كل الضحايا الذين سقطوا منذ بداية الثورة قتلهم النظام. حتى الجنود و رجال الأمن الذين سقطوا، قتلهم النظام لأنهم رفضوا تنفيذ الأوامر بإطلاق النارعلى النساء و الأطفال “عشوائياً” أو “اغتصاب الحرائر.” عندما يقتل متظاهرون مؤيدون للنظام، يجب تحميل المسؤولية على النظام أيضاً.

17 – شخصيات النظام يعيشون في حالة من التخبط و الذعر. يفقدون أعصابهم و يقتلون بعضهم بعضاً. وزير الدفاع علي حبيب وجد مقتولاً بعد ساعات من إقالته. ماهر الأسد أطلق النار على نائب رئيس الجمهورية فاروق الشرع، و صفع بثينة شعبان على وجهها لأنها وعدت بإصلاحات. الديبلوماسيون السوريون يتخلون عن النظام، و المزيد سيفعلون نفس الشيء الأسبوع القادم. على مدى الأشهر العشرة الماضية، كان بشار الأسد منشغلاً بمحاولة تأمين مهرب له حيث سيهرب الأسبوع القادم إلى طهران، دبي، روسيا، أو حزبللهستان.

18 – روسيا، إيران، و الصين قررت التخلي عن دعم النظام. سيسمع النظام أخباراً سيئة الأسبوع القادم.

19 – الثروة الضخمة التي نهبها رامي مخلوف و بشار الأسد من الشعب السوري كافية لإنعاش الاقتصاد السوري لو تم استرجاعها من الحسابات السويسرية. موقع مجلة كاناديان بيزنيس واثق من أن ثروة بشار الأسد، و التي تبلغ 122 مليار دولار (بحسب الموقع) تجعله أغنى رجل على الكوكب بلا منازع. ربما على محرري المجلة، و الذين يعرفون كيف يتقصّوا الأموال المخبأة، أن ينقلوا خبراتهم في أسرار التعامل البنكي إلى السويسريين. إذ لم يتمكن السويسريون من تجميد أكثر من 53 مليون دولار هي مجموع أصول 54 مسؤولاً سورياً، إضافة إلى 12 شركة سورية.

20 – الجيش يستخدم الدبابات، و الطائرات النفاثة، و السفن الحربية لقصف المواطنين الراغبين بالحرية “عشوائياً”. و هو يستهدف بشكل خاص النساء و الأطفال، إضافةً إلى المساجد. إلا أنه و مع كل إمكانيات التصوير المتاحة لمناوئي النظام، فإنهم لم يتمكنوا من تسجيل فيديو واحد يظهر طائرة حربية سورية تقصف هدفاً مدنياً. و اقتصرت اللقطات التي حملها مناصروا موقع “الثورة السورية” على الفيس بوك بإظهار سفن حربية سورية “تستعد للقصف” مما يؤكد بأنهم لم يتمكنوا من الحصول على أي تسجيل يصور عملية قصف من زوارق حربية سورية. غالبية “الدبابات” التي ادعت وسائل الإعلام مشاركتها في قمع المتظاهرين كانت في الحقيقة ناقلات جند مدرعة، استعملها الجيش و حفظ النظام لحماية عناصره من القناصة. تم في شهر كانون الأول 2011 رصد لاستخدام دبابات في بعض المناطق الساخنة في حمص، حيث رصد وجود أسلحة مضادة للدرع قادرة على اختراق ناقلات الجند الأضعف تدريعاً.

21 – ماهر الأسد هو أقوى رجل في سوريا، و فرقته الرابعة تواجدت في كل أنحاء سورياً (درعا، حماة، بانياس، دير الزور، و غيرها) و في نفس الوقت، و دائماً بغرض قصف المدنيين عشوائياً و اغتصاب النساء. فيما بعد، و عندما اتضح أن الفرقة الرابعة بالكاد تحركت من مواقعها، تخلت المعارضة عن قصصها اليومية الخاصة بماهر الأسد.

22 – حجم المظاهرات المناوءة للنظام يكبر باستمرار يوماً بعد يوم. حتى بعد أن بدأ حجم التظاهرات يتقلص بشكل ملحوظ بعد شهر رمضان، استمر وصف تلك التظاهرات بأنها “ضخمة جداً،” و استمرت وسائل إعلام عالمية بادعاء خروج مظاهرات تقدر بمئات الآلاف في بلدات صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن عشرات الآلاف. في إحدى الوقائع، و فيما أحصى أحد مراقبي جامعة الدول العربية 10 إلى 12 ألف لمظاهرات خرجت في إدلب، كانت وسائل إعلام غربية مشهورة تتكلم عن 250 ألف في نفس المكان. في المقابل، فإن أية تجمعات مؤيدة للنظام، حتى في أكبر المدن السورية حلب و دمشق (سكان كل منهما يبلغ حوالي 4 ملايين)،حتى تلك التي وصل تعدادها ما بين 100 إلى 200 ألف مشارك بشهادة روبرت فيسك في صحيفة الإندبندنت، كانت في أحسن الأحوال توصف بأنها “كبيرة”.

23 – يجب إهمال كل ما يرد على التلفزيون السوري و من وكالة الأنباء السورية سانا و عدم إعطاء أي منهما أية مصداقية. بالطبع، فيم الاثنتان مؤسستان حكوميتان هدفهما نشر رواية النظام الرسمية عن الأحداث، و فيم هما انتقائيتان بالكامل في كل ما تورداه من أخبار، إلا أنهما في الغالبية الساحقة لا تفبركان الأخبار، بينما لم تتوقف المعارضة عن حملة فبركة مستمرة لأخبار مغلوطة، و لم تتجشم أي من وسائل الإعلام العالمية التي كانت تحمل تلك الأخبار أي جهد للتحقق من القصص التي كانت توردها المعارضة.

24 – مؤيدو النظام هم أتباع سذج، محدودو الذكاء و الأفق، و يشبهون النعاج في طواعيتهم للنظام. بينما على الطرف الآخر، يتمتع مؤيدو المعارضة (و الذين يشار إليهم باسم “الشعب السوري”) بكل الصفات الحسنة، فهم أذكياء، مبدعون، أخلاقيون، شجعان، ذوو رؤية، تهمهم مصلحة سوريا، و يسعون للحرية و الديموقراطية و الكرامة. الثورة بريئة من العيوب.

25 – في كل خميس، و للصدفة البحتة قبل مظاهرات اليوم التالي، يتم تعويم ضحية مثالية لبطولة الجمعة الحالية، و تتحول هذه الضحية إلى رمز لهذه الجمعة على الجزيرة و على الفيس بوك. يمكن لهؤلاء الضحايا أن يكونوا حقيقيين، و يمكن أن يكونوا وهميين، مثل أحمد بياسة، الذي ملأت الدنيا تفاصيل مقتله المفترضة، حيث “حطم اللواء علي مملوك عنقه بحذائه العسكري فيم كان يتعرض للتعذيب في أحد فروع المخابرات”. (قام أحمد بياسة فيما بعد بنفي أنه قد قتل أو تعرض للتعذيب). أو مثل زينب الحصني، التي قيل لنا أنها الجيش السوري أعاد جثتها مقطعة و مشوهة، مما حدا بمنظمة العفو الدولية لاعتبار تلك الحادثة دليلاً على تصرفات وحشية غير مسبوقة من قبل النظام، قبل أن تظهر فيما بعد على التلفزيون السوري لتنفي خبر مقتلها.

من السهل على القارئ أن يفهم لماذا تصب كل من النقاط الخمسة و العشرين التذ ذكرناها، في مصلحة من يسعون لإسقاط النظام. و في الواقع، فإننا لو تتبعنا مقالات الرأي التي غطت الأزمة السورية فسنجد أنها في الغالب تعتمد على تشكيلة من هذه النقاط الأساسية، و التي نجح استراتيجيو الثورة في تمريرها إلى الإعلام المتعاون بشكل أو بآخر.

و لكن، لماذا نجح منظرو الثورة في فرض رؤيتهم الخاصة بتوجههم، بينما فشل النظام في ذلك؟ في رأينا، فإن ذلك يعود للأسباب التالية:

– يعشق الصحفيون قصص الثورات، و يحبون أن يساعدوا الطرف الأضعف، خاصة و أنه “يناضل لنيل الحرية” من نظام دكتاتوري، و يسعى لاستبداله بنظام ديموقراطي، و هم يدعمون هذا الطرف، حتى و لو اضطروا للتظاهر بأنهم لا يرون التيارات المتطرفة، و المعادية لقيم الديموقراطية و الحرية في هذه الثورة.

– قام النظام السوري بتقييد حرية الصحافة (الغربية خاصة) بشكل كبير، و لم يعطيها أية مواد مفيدة لروايته، مما حدا بالصحفيين إلى اعتماد رؤية المعارضين المقيمين غالباً في الخارج، و هي رؤية منحازة بشكل كبير للجهة المناوءة للنظام.

– الوضع السوري أكثر تعقيداً بكثير من أن يفهمه صحفي غربي لم يدرس المنطقة بعمق، و لا يزورها باستمرار أو يقيم فيها.

– معظم قنوات الإعلام (الغربية و بالتأكيد العربية) تتبع سياسات وزارات الخارجية للدول التي تتبع لها، و تتبنى خطها و رؤيتها.

– الصحفيون العاملون في قناتي التلفزيون الأكثر تأثيراً في العالم العربي الجزيرة (مملوكة لقطر) و العربية (مملوكة للسعودية) يتبعون رغبة حكام تلك الدولتين في إسقاط النظام الحاكم في دمشق. و ليس خفياً أنهم يقدمون خدمات كبيرة لجهة الثورة بإتاحة المنصة المسموعة عربياً لشخصيات كان الكثير منها غير معروفاً قبل الأحداث الحالية، لكي تنتقد النظام بحدة و تتهمه بارتكاب المجازر و الفظائع المختلفة. مثلاً اتصل شخص ادعى بأنه عضو في لجنة المراقبين العرب التابعة لجامعة الدول العربية، و تحدث بإسهاب لمحطة العربية عما أسماه “إبادة جماعية لا تمت للبشرية بصلة” تحدث في حمص، و أعطته القناة المنصة دون أي تمحيص لقصته. و بعد بضعة أيام، و بعد أن صدقه الكثيرون، و نشرت ادعاءاته منصات إعلامية عديدة حول العالم، صدر نفي خافت  لم ينل تغطية واضحة من جامعة الدول العربية لما قاله و لكونه عضو في لجنة الجامعة. مثال آخر، ظهر شخص يدعى أنور مالك على قناة الجزيرة مرتدياً الصدرية البرتقالية في استديوهات الدوحة ليقول أنه اضطر للانسحاب من لجنة المراقبين لأنه لم يعد يحتمل الدوس على جثث القتلى المدنيين في شوارع حمص. مجدداً، ينتج عن ذلك تهييج إعلامي كبير ضد النظام، و لا يكاد يلتفت أحد إلى أن الجامعة العربية أصدرت بعدها بأيام بياناً نفت فيه ادعاءاته المفبركة حيث قالت أنه “كان مراقبا بالفعل ضمن البعثة ولكنه ظل ملازما للفراش في مقر إقامته بأحد الفنادق السورية بسبب مرضه، فكيف له أن يقول ما ذكره.”

– أخيراً، فيم يبذل عدد محدود من الصحفيين جهداً كبيراً لتقصي القصص التي يوردونها، فإن عدداً أكبر منهم لا يتمتع بنفس الهمة، بل يعتمد على البيانات الصحفية اليومية التي تصدرها جهات متعاطفة مع الثورة، و المليئة بأخبار منحازة تماماً، و لكن جاهزة للقص و اللصق كما هي و دون جهد، من قبل الصحافة. قبل بداية الأزمة بعدة أشهر، قام أسامة المنجد بتأسيس ما سمي بمركز البحوث و الاتصالات الاستراتيجي في لندن، و هو كان يعمل قبل ذلك في قناة بردى الممولة أمريكياً، و هي ذات توجه إسلامي و مناهض للنظام. و خلال الأزمة، وزع المنجد وقته بين زيارات للأوروبيين و الأمريكيين لتحريضهم على إصدار المزيد من العقوبات على النظام، و بين إصدار نشط لنشرات إخبارية تحريضية كان يرسلها بالإيميل لعدد كبير من الجهات المهمة عالمياً.

في المقابل، لم يمنح النظام أية مقابلات صحفية لصحفيين أجانب، و بالكاد نشر أية مواد أصلية داعمة لروايته. و في الحقيقة، فإن جميع المواد المتوفرة على اليوتيوب مثلاً و التي تفضح تسلح بعض الجماعات و إطلاقهم النار و وحشية بعض تصرفاتهم، هي مواد كانت المعارضة نفسها هي من وضعها على الانترنت (كنوع من إظهار القوة و التفاخر). اقتصرت المواد التي عرضها النظام على تصوير كميات مصادرة من الأسلحة المهربة أو المصادرة، و على اعترافات من المعارضة المسلحة لعناصر مقبوض عليها، و لكن هذه التغطية تعرضت لنقد شديد من قبل الصحافة التي شككت بشكل مستمر في مصداقيتها. في النهاية، فإن الصحافة العربية و الغربية امتنعت بشكل شبه كامل عن حمل أية قصة ترد على الإعلام الرسمي أو شبه الرسمي السوري، بما في ذلك جنازات عناصر الجيش و الأمن الذي يسقطون في المواجهات مع المسلحين، بالرغم من أن التلفزيون كان يذكر أسماءهم و رتبهم و تفاصيل استشهادهم و مقابلات مع ذويهم.

بالإضافة إلى ذلك، فإذا نظرنا إلى لوحات الثورة على الصفحة الرئيسية على الفيس بوك، سيمكننا بوضوح أن نستشف وجود خبراء في التواصل و التسويق يساعدون الإداريون الأصليون لهذه الصفحات و الذين لا يتمتعون بالكثير من الخبرة.

مقالة بقلم كميل أوتراقجي

النسخة العربية بقلم إبن رشد Averroes



Comments (7)


 

ZoubaidaAlkadri said:

this is the best article ever written about the unrest in syria.

January 16th, 2012, 12:54 am

 

mrafandy said:

Great blog! You’ve outdone yourself, Camille! Very insightful articles that represent all angles of the Syrian crisis. Even the illiterate would enjoy this site for its photos showcasing Syria’s rich history.

January 16th, 2012, 1:49 am

 

Dr Ali Mohamad said:

مقال ممتاز وتحليل بارع يدل على متابعة عميقة وجدية. كما تعودنا من موقع سوريا المبدعة.

January 16th, 2012, 5:57 am

 

Averroes said:

شكراً للجميع و أول الشكر لكميل. ادعوا أصدقاءكم من المعارضة للنقاش هنا.

January 16th, 2012, 4:53 pm

 

assoum said:

السيد المحترم كميل شكراً لك على المقالة الموضوعية و أرجو أن تقبل مني إضافة وجهة نظر فيما يتعلق بالمقاربة الواقعية و الموضوعية بالنسبة لنا كسوريين علمانيين و مدنيين بغض النظر عن موالاة للنظام أو معارضة . عندما يكون الحراك المعارض يرسمه شيوخ الدين الاسلامي المتطرف فمن الخطأ أن تطلق عليه “معارضة”أو مطالب محقه ، هل المفروض أن نقبل بديكتاتورية الأكثرية؟ هل المطلوب منا كسوريين أن نقبل مصطلح “أهل الزمة” في قانون الأحوال المدنية؟ هل المطلوب أن نقبل مصطلح “الموطوءه”بدل كلمة الزوجة؟ هل المطلوب مني كسوري علماني أن استخدم كلمة الجهاد

January 21st, 2012, 8:50 am

 

Averroes said:

الأخ عصوم، شكراً على مشاركتك. الحقيقة على الأرض تعكس التباين الكبير داخل المجتمع السوري، و الذي ازداد استقطاباً في السنوات الأخيرة و بشكل حاد خلال الأزمة الحالية. هذه الثقافة التي أشرت إليها بكل أسف صارت مقبولة بل و معتنقة من قبل جزء مهم من السوريين، في تقديري أنه حوالي ١٥٪ من مجمل عدد السكان، و هي ليس نسبة قليلة. و لذلك، فإن الأزمة الحالية أعمق بكثير من مجرد حقوق ناقصة، و هي بكل أمانة صراع على هوية سورية و شكلها و موقعها. هل ستتحول إلى أفغانستان جديدة؟ و هو نموذج يريده هؤلاء و لا يرون فيه ضيراً، أم هل ستحافظ على تنوعها و علمانيتها الحافظة لهذا التنوع.

January 21st, 2012, 5:23 pm

 

Post a comment