دراسة شادي حجازي

تتحدث المقاربات المختلفة عن الأزمة السورية عن البعد الاجتماعي من اتجاهين متباينين، أحدهما هو اعتبارها ثورة الريف على المدينة، و ثانيها اعتبرها فشلا في نظام التعليم مما أدى الى تفاقم و استعار الازمة الاجتماعية.

تحاول هذه الورقة الاجابة عن المسائل المطروحة من خلال فرضية اساسية هي التالية:
كان البعد الريفي للازمة السورية سائرا على التوازي منذ وقت مبكر مع البعد المدني الذي كان اكثر بروزا في الاعلام و في الفضاء الافتراضي. و دون الخوض في التفاصيل الكثيرة الخارجة عن اطار هذه الورقة فإن سبب التباين مزدوج:

السبب الاول: طبيعة تكوين المجتمعات الريفية التي تعلي من الهوية المحلية المناطقية (الفزعة – العشيرة) وهو الامر المتعلق بطبيعة المجتمعات الصغيرة و الذي يمكن استيعابه في الظروف الطبيعية، و لكن من الضروري معالجة الشعور بان القرارات التنظيمية تهدف الى مصلحتهم و ليس موجها ضدهم من “الدولة” او السلطة المركزية،و هذا الامر لا تمكن معالجته الا من خلال تطوير نظام الادارة المحلية بشكل مرن بحيث تصبح القرارات المتعلقة بالمعيشة اليومية للسكان متعلقة بمن يختارونهم هم للقيام بالمهمة، بدل أن تكون القرارات هذه مفروضة بشكل مركزي أو من ممثلين معينين مركزيا.
السبب الثاني: عدم فعالية نظام التعليم قبل الازمة في الانتشار النوعي و التركيز على الانتشار الكمي. مما أدى الى عجز النظام التعليمي عن التغيير الفعال في المجتمعات الريفية. و هذا يفرض مقاربة جوهرية لفاعلية نظام التعليم من حيث الامتداد الجغرافي، حيث بينت الاحصائيات السابقة للأزمة ان المجتمعات المحلية قامت بتطوير المدارس الخصوصية للتعامل مع مشكلة عدم الكفاءة في التعليم، و هو حل مناسب لمحاولة التعامل مع مشكلة الموارد و كفاءة التعليم من خلال القطاع الخاص. بيد أن قرارا مركزيا اتخذ باغلاق هذه المدارس لاسباب غير مقنعة ادى الى اخراج هذه المنظومة التي يمكن استيعابها و تنظيم الممارسات الخاطئة فيها من التعليم في سورية.

shadi education 1

انطلاقا من هذه النقاط فإن التعامل مع هذه المسائل غير ممكن بالطرق السابقة، و بالاخص للمستجدات من حيث خروج اقسام كبيرة من البنية التحتية للنظام التعليمي من الخدمة، و أي مقاربة فعالة اذا لا بد و أن تأخذ بالاعتبار كيفية اعادة بناء التواصل المركزي مع الاطراف المحلية، و مساهمة هذه الاطراف في عملية تطوير العملية التعليمية و المحتوى التعليمي. هذا التواصل يمكن أن يشكل جزءا من أي حلول في مجالات اخرى و جزءا من اجراءات بناء الثقة في بعض المناطق و المراحل.

المسائل المطروحة

إصلاح العملية التربوية في ظل التحول الحالي

المبادئ الناظمة

من حيث المبدأ فإن العمل على اصلاح العملية التعليمية هو عملية مستمرة، مما يطرح بعض التحديات الصعبة، و اهمها الدمار الكبير في البنية التحتية، و خروج قسم كبير من المنشآت التعليمية بسبب الدمار أو بسبب استخدامها كمنشات لاسكان المهجرين. و التعامل مع هذه المسألة في ظل هذه الظروف يجب أن يركز على المبادئ الناظمة التالية:

1- التوسع الكمي و اعادة المتسربين: بينت دراسات سابقة الحجم الكبير للتسرب بعد المرحلة الاساسية، مما يعني ان الجدوى الاقتصادية من التعليم لم تكن كافية لابقاء الطلاب في المدارس. و في ظل وجود فرص “عمل” بديلة من خلال الازمة فقد يكون من الصعب اجتذاب المتسربين في المرحلة الثانية من التعليم الاساسي. حل هذه المشكلة مرتبط بالجوانب الاخرى للازمة، لكن من الضروري التركيز في هذه المرحلة مع المجتمعات المحلية لاعادة الالزام الى مرحلة التعليم الاساسي الاولى تحديدا، و ربما اعادة النظر في الزامية التعليم في المرحلة الثانية بسبب صعوبة فرضه و مشاكل الاستيعاب، و العمل بدلا عن ذلك على ربط المخرجات التعليمية بسوق العمل مما يعطي قيمة اقتصادية للتعليم تدفع الى الالتزام به دون التركيز على الفرض القانوني.

2- مساهمة القطاع الخاص: بالتركيز على المرحلة الابتدائية و تشجيع القطاع الخاص على انشاء المعاهد و المدارس الخاصة (بما فيها النظر في دفع رسوم الطلاب في المدارس الخاصة الملتزمة بمعايير الجودة التعليمية و في الاماكن الاكثر احتياجا) يصبح من الممكن زيادة الطاقة المتاحة للقطاع التعليمي بشكل يفوق قدرة القطاع الحكومي على التمويل. قد يمكن ايضا ادخال مفهوم الكوبونات التعليمية education voucher و ذلك يشجع على الاستثمار في المدارس الخاصة و يدفع المدارس الحكومية الى تحسين الجودة في المخرجات التعليمية، اضافة الى انه يتلافى مشاكل تاريخية في سورية مسبقا هي المدارس المستولى عليها لتوسيع التعليم و التي لا تتناسب مع الظروف اليوم.

3- التوسع في المدارس الحرفية و المهنية و الصناعية مع السماح للقطاع الخاص بالتنافس فيها ايضا (مراكز التدريب الحرفي و المهني) و بدعم حكومي حسب البند السابق. لهذا الامر فائدة مزدوجة اولها هو الحاجة الفعلية لخريجي هذه المدارس مما يحفز على الانخراط في العملية التعليمية لعائدها الاقتصادي، و ثانيها هو المساهمة في حاجات اعادة البناء الكبرى المطلوبة في السنوات القادمة. و هذا التوسع يجب أن ينظر في المجالات الحرفية و المهنية الصاعدة و المتفقة مع الخصوصية السورية كالجوانب التقنية و اللغوية في انتاج وسائل الاعلام media التي من المتوقع ان تصبح صناعة كبرى في المستقبل القريب بسبب التحول في الاعلام من الكلمة المكتوبة الى المصورة حتى على الانترنت، و الكتب التفاعلية.

4- الاستفادة من الازمة في تشجيع البحث عن حلول بديلة غير تقليدية: قد تكون هذه الحلول من قبيل توفير الكتب و المراجع بشكل الكتروني و التعاقد مع مزود لتقديم جهاز لوحي مخصص للكتب، حيث يمكن ان تكون تكلفة ذلك على المدى الطويل ارخص من التقيد بالكتب الورقية؛ أو تحويل جزء من المناهج للتعلم الذاتي من خلال الانترنت أو من خلال برامج تقدم ذاتي على الاجهزة اللوحية (على نطاق تجريبي بداية بالطبع بسبب حالة الانترنت و التكاليف).

shadi education 2

تجارب يمكن الاستفادة منها

التجربة الالمانية في البناء بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، و النماذج و النقاشات المختلفة ابان اقرار قانون التعليم و التدريب المهني لعام 1969، اضافة الى تجربتها في التعليم الثنائي (تدريب عملي مع تدريس) و في تنظيم قطاع المدارس الفنية و المهنية.

تجربة التوسع في التعليم التجريبي و الانترنت في التعليم في رواندا في السنوات القليلة الماضية.

تطوير مناهج الاساليب التعليمية

يتعلق هذا العنوان بمجموعة من العناوين الفرعية و هي:
كيف يمكن بناء الأجيال في ظل انقسامات حادة وفي ظل اهتزاز واضح للمفاهيم الأساسية للمجتمع؟ و ما هي العناوين الأساسية التي يمكن ان تدخل ضمن المرحلة الانتقالية بهذا الخصوص؟
هل نلغي التعليم الديني و نطرح بدائل عنه  فلسفة الاديان وتاريخها  ام نعيد صياغة المناهج الدينية من جديد؟
كيف  يمكن إدخال الثقافة البيئية كجزء من الاحتياجات الاجتماعية والضرورات لتنمية مستدامة؟
كيف يمكن إدخال مسألة حقوق الإنسان بما فيها حقوق المرأة والطفل واحترام الاختلاف ضمن العملية التعليمية والتربوية؟

المبادئ الناظمة

من الصعب مقاربة موضوع المناهج على حدة، فهو جزء من الازمة السورية بوصفها مشكلة مراوغة Wicked problem و تنطبق عليها جميع خواص و اقتراحات حل هذه المشاكل. يمكن تلخيص أهم خصائص هذه المشاكل بالتالي::

1- ليس هناك تعريف للمشكلة الا من خلال الحل، و لا يمكن حل المشكلة لأنها غير معرفة بشكل واضح. عند الوصول الى حل يتم تعريف المشكلة.
2- لدى اصحاب المصلحة المتفاوتين في التعامل مع المشكلة اطر مرجعية متفاوتة جذريا في النظر الى اليها و اختلاف جذري في المرجعية الملائمة.
3- المشكلة ديناميكية و دائمة التغير، و كذلك الموارد التي تحتاجها للحل.
4- لا يمكن ايجاد حل حاسم للمشكلة.

و هناك عديد  من المقاربات لكيفية التعامل مع مشاكل كهذه في الادبيات الادارية، و لكن الجوهر الذي يخص المشكلة التعليمية هنا هو المقاربات الثلاثة التي يمكن استخدامها للنظر في موضوع المناهج من وجهة نظر المشاكل المراوغة، وهي:

1- المنهج القسري: حيث تفرض الجهة الاقوى حلها للمشكلة.
2- المنهج التنافسي: و الذي يطلب من الجهات المتباينة وضع نظرتها في حل المشكلة لتمكن المفاضلة بينها.
3- المنهج التعاوني: حيث يمكن للجميع التعاون في الوصول الى حل للمشكلة.

و بالنسبة للناحية التعليمية، فالحل التعاوني هو الاكثر مناسبة للتطبيق، و كما ورد أعلاه فإن هذا الحل قد يكون جزءا من اجراءات بناء الثقة في مراحل لاحقة، أما أي حل قسري فسيفاقم الجوانب الاخرى للمشكلة ، أما الحل التنافسي فغير ممكن اذ لابد من وجود اعتراف مركزي و شامل بمخرجات العملية التعليمية.
بيد أن الحل التعاوني قد يتضمن مشاركة مجتمعية في الصياغة التي تشرف عليها نهاية لجان اختصاصية. و من الممكن الاستفادة من تجارب بناء الموسوعات على الانترنت أو حتى التجربة الايسلندية في اعادة كتابة الدستور بمشاركة السكان. و لكن هذا كله يتطلب وقتا و لا يمكن الانتظار بشكل طويل. لذلك لابد من البدء بخطوات اخرى اكثر مباشرة. و هنا يمكن اللجوء الى ادخال مادة اضافية هي التاريخ الانساني. ويقصد من هذه المادة المشتركة بين جميع الطلاب تقديم المفاهيم الاخلاقية في الفلسفات و الاديان المختلفة، بشكل يجمع بين الاخلاق و تاريخ تطور الفلسفات و الافكار الدينية و الانسانية. حيث يمكن من خلال هذه المادة تقديم مفاهيم حقوق الانسان و البيئة و غيرها دون محاولة تغيير المناهج الدينية أو الغائها في هذه المرحلة، و لهذا الموضوع اهمية بشكل عام لأنه يشكل أساسا سلوكيا للطلاب على اختلاف اديانهم و وسيلة لتعلم الدين دون الحاجة الى انشطة خارجية قد تتسرب اليها افكار غريبة. و الامر يكتسب اهمية اضافية اليوم في ظل قدوم افكار متطرفة غريبة عن المجتمع متخفية خلف رداء ديني. فالغاء هذه المناهج هو الغاء لخط دفاع اساسي في وجه الافكار المتطرفة، ومن الضروري الحفاظ عليها و ربما تطويرها لاحقا.


ما رأيك بهذه الدراسة ؟ و هل قدمت حلا عمليا للقضية المطروحة ؟ وما مدى قابليتها للتطبيق في المدى القريب ؟